هل السنهوري هو من كتب القانون المدني العراقي ؟ ---------------------------------- لو سألنا هذا السؤال الى الحقوقيين والمحامين العرب والعراقيين وحتى لو رجعنا الى المصادر الأجنبية لكانت الإجابة من قبل اكثر من 90 منهم هي ان من كتب القانون المدني العراقي هو العلامة الدكتور عبد الرازق السنهوري غالبا يكتب اسمه عبد الرزاق ولكن الصحيح هو عبد الرازق فهل هذه الإجابة صحيحة؟ مع الأسف ان الإجابة غير صحيحة وفيها تجني كبير على التاريخ وطمس للحقيقة لاسباب تتعلق بعوامل سياسية واجتماعية . اذن ما هي الحقيقة ولماذا تمت محاولة طمسها ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما يلي . في البداية ان هذا المقال ليس تقليلا من قدر او قيمة العلامة السنهوري الذي يعتبر واحد من اهم فقهاء القانون العرب ولكن هي محاولة لبيان الحقيقة وإعطاء كل ذي حق حقة وانصافا للتاريخ . كانت اول محاولة في الشرق لتقنين الاحكام قد ظهرت في بغداد أيام الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور حيث ارسل اليه ابن المقفع الرسالة المعروفة باسم رسالة الصحابة ، وقد أشار فيها ابن المقفع الى ضرورة توحيد ما يقضى به بين الناس في مدونة واحدة يعمل على وضعها عدد من الفقهاء يدونون آراء القضاة المجتهدين والفقهاء في ذلك العصر بعد تمحيصها والترجيح بينها. وقد بين ابن المقفع في رسالته حال اختلاف القضاة المجتهدين، وكيف إن الأمر الواحد يقضي فيه أحد القضاة المجتهدين برأي، ويقضي غيره في نظيره بخلافه، في الأموال والأنكحة وغيرها. وقد أراد أبو جعفر المنصور ومن بعده الرشيد أن يختار مذهب الإمام مالك وكتابه «الموطأ» فرفض مالك ابن انس ذلك قائلا إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب . وفي القرن الحادي عشر الهجري امرسلطان الهند أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب بهادر بادشاه غازي الملقب باسم عالَم كَير؛ أي: فاتح العالم 10281118ﻫ فقهاء السلطنة وعلى راسهم الشيخ نظام الدين بن قطب الدين البرنهابوري بوضع كتاب في الفتاوى على الصحيح من مذهب الحنفية، تَجمَعُ جُلّ مذهبهم مما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية ، فجمعوها ورتبوها على ترتيب كتاب الهداية شرح بداية المبتدي للإمام برهان الدين المرغيناني، واقتصروا فيها على ظاهر الرواية، ونسبوا الأقوال لقائليها، ولم يغيروا فيها إلا لداعي الضرورة ،ورتبوها على ترتيب كتاب الهداية للمرغيناني . سمي الكتاب باسم الفتاوى العالمكيرية وكذلك يعرف باسم الفتاوى الهندية . بعد انتهاء حرب القرم بين روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية عام 1856، فطلبت السلطنة العثمانية من الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو تقنيناً واضحاً لكيفية معاملة الرعايا المسلمين الذين اصبحوا تحت السلطة الروسية بعد خسارة العثمانيين للحرب ، مما دفع الروس للرد بالمثل. فأنشأ السلطان عبد المجيد لجنة من الفقهاء الحنفية منهم الشيخ علاء الدين عابدين ابن صاحب الحاشية مع مساهمين من المذاهب الثلاث الأخرى بصفة مراقبين؛ لتقنين أحكام المعاملات والقضاء، فصدرت مجلة الأحكام العدلية. وقد صدرت المجلة باسم مجلة الاحكام العدلية عام 1869 وتضمنت جملة من أحكام البيوع، والدعاوى، والقضاء ، واحتوت على 1851 مادة. في عام 1876 وبأمر من السلطان عبد الحميد الثاني تقرر اعتبار مجلة الاحكام العدلية بمثابة القانون الموحد للسلطنة العثمانية في مجالات البيع، والإيجارات، والكفالة، والحوالة، والرهن، والأمانات، والهبة، والغصب، والإتلاف، والحَجْر، والإكراه، والشفعة، والشركات، والوكالة، والصلح، والإبراء، والأمور المتعلّقة بالإقرار، والدعوى، والبيّنات والتحليف، والقضاء. وكانت تشرف على اصدار المجلة لجنةٌ علميةٌ ألفت بديوان العدلية في اسطنبول وكان رئيسها ناظر هذا الديوان أحمد جودت باشا. كان المصدر الرئيس الذي اغتمدت عليه اللجنة ، كتاب: الأشباه والنظائر لابن نُجيم الحنفي. كذلك عملت السلطنة العثمانية على اصدار قانون موحد للأحوال الشخصية، باسم قانون حقوق العائلة. نتيجة لرغبة الخديوي إسماعيل ابن إبراهيم باشا ابن محمد علي في الاستقلال عن السلطنة العثمانية وبعد ان صدرت فتوى من مشيخة الأزهر بان كتب الفقه الإسلامي لا يمكن التقنين منها، فقد اتجه الى قانون نابليون الذي كان معجبا به فارسل بعثات لدراسة القانون في فرنسا . بالنسبة للعراق فقد استمر العمل ب مجلة الاحكام الشرعية في المجال المدني حتى بعد سقوط الدولة العثمانية واحتلال العراق من قبل البريطانيين ثم انشاء الحكم الوطني عام 1921 . ونتيحة للشعور بان مجلة الاحكام لم تعد ملائمة لتطورات العصر فقد تم في عام 1933 طرح فكرة كتابة قانون مدني عراقي يكون بديلا عن مجلة الاحكام العدلية العثمانية وتقرر تشكيل لجنة من نوري خضر يوسف القاضي رئيس ديوان التدوين القانوني والذي اصبح مديرً عام العدلية سنة 1936، هو أحد أعمدة القضاء وخبرائه في العراق ومن المؤسسين له والوزير الاسبق للمعارف في العهد الملكي، وهو من أسرة علمية ودينية في بغداد ولد سنة 1893م ، والده هو السيد خضر القاضي أحد قضاة بغداد لذي وصل إلى مرتبة عالية في مجلس التمييز في القرن التاسع عشر وشقيقه العلامة منير القاضي ، ومحمد علي محمود نائب رئيس مجلس النواب في حينه والذي اصبح وزير المالية عام 1937 ، والأستاذ داود سمرة القاضي اليهودي العراقي الذي كان أحد أبرز القضاة في عهد المملكة العراقية ونائب رئيس محكمة التمييز،المولود في عام 1878 من عائلة يهودية في بغداد، وتربى ونشأ فيها ولم يغادر العراق منذ ولادته لغاية وفاته عام 1960، والقاضي انطوان شماس المسيحي البغدادي عضو محكمة التمييز وكانت دراسته الأولية في بغداد، وانتقل بعد ذلك إلى إسطنبول لدراسة الحقوق ، و عبد الله بن سلام بن عبد الغفور غفوري بن رزيج الأعظمي القاضي في محكمة التمييز ، وأبو العلاء حمدي بن الملا عبد الله بن محمد العبيدي الأعظمي المدون القانوني في وزارة العدل وخطيب الحضرة القادرية في بغداد ، وحسن رضا بن خميس بن ضاحي البغدادي قاضي ومحامي عراقي، عضو محكمة تمييز العراق ومدير الأوقاف ورئيس جمعية الشبان المسلمين العراقية والأستاذ بهجت زينل نقيب المحامين العراقيين . في عام 1935 تم إعادة تشكيل اللجنة لتضم خمسة اشخاص هم القاضي عبد الجبار عبد الرحمن التكرلي عضو محكمة التمييز العراقية والدكتور عبد الرزاق السنهوري عميد كلية الحقوق العراقية والقاضي حسن سامي بن حسين العمر التاتار عضو محكمة التمييز الذي انهى دراسته الأولية في مدارس بغداد والتحق بمدرسة الحقوق ولم يكملها لنشوب الحرب العالمية الأولى، وواصل دراسته وتخرج في مدرسة الحقوق عام 1921، و نوري القاضي ولكن الدكتور السنهوري غادر العراق بعد اشهر من تشكيل اللجنة وعاد الى مصر عام 1936 ليتم تعيينه عميدا لكلية الحقوق المصرية . سنة 1943 اعيد تشكيل لجنة مشروع القانون المدني برئاسة السنهوري ونوري القاضي نائبا للرئيس وعضوية محمد حسن كبه وحسن سامي تاتار وانطوان شماس وعبد الجبار التكرلي ومنير القاضي والمحامي نشأت السنوي، ولكن السنهوري غادر العراق عام 1944 الى دمشق . في عام 1945 تم تشكيل لجنة أخرى برئاسة الأستاذ نوري القاضي وعضوية الأستاذ منير القاضي والأستاذ منير شماس والأستاذ حسن سامي التاتار والأستاذ عبد الجبار التكرلي والأستاذ محمد حسن كبة اتمت المشروع بعد اربع سنوات وتم تقديمه الى الحكومة عام 1949 . تمت المصادقة على المشروع من قبل مجلس الاعيان والنواب في 30 من شهر شعبان سنة 1370 هجرية الموافق 4 حزيران يونيو سنة 1951 وتم نشره في جريدة الوقائع العراقية الجريدة الرسمية للعراق بالعدد 3015 في 891951 وقد أصبح نافذاً بعد مرور سنتين من تأريخ نشره كما نصت المادة 1382 منه حيث تنص : المادة : 1382 : ينفذ هذا القانون بعد مرور سنتين من تأريخ نشره في الجريدة الرسمية برقم 40 لسنة 1951 واقترن بالارادة الملكية في 15 حزيران 1951 في عهد وزارة نوري السعيد الحادية عشرة ووزير العدلية حسن سامي التاتار. واصبح نافذا عام 1953 . تضمن القانون 1383 مادة وكانت المصادر التي اعتمدت عليها اللجنة حسب ما ورد في الأعمال التحضيرية لكتابة مشروع القانون المدني : 1. مجلة الأحكام العدلية . 2. كتاب مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، ملائمًا لعرف الديار المصرية وسائر الأمم الإسلامية لمؤلفه وزير العدل المصري الأسبق محمد قدري باشا 3. الفقه الإسلامي بمذاهبه المختلفة. 4. القانون المدني المصري من خلال ما تقدم يتبين لنا ان فكرة كتابة قانون مدني عراقي كانت سابقة على وصول السنهوري باشا الى العراق وقد تم تشكيل لجنة فعلا لذلك عام 1933 . تم تشكيل أربعة لجان خلال الفترة من 1933 ولغاية 1945 هي لجنة 1933 ولجنة 1935 ولجنة 1943 ولجنة 1945 ، اشترك الدكتور السنهوري باشا في اثنين منها هي لجنة 1935 و 1943 . لم يكمل الدكتور السنهوري عمله في أي من اللجان لمغاردته العراق حيث لم يبقى في العراق سوى بضعة اشهر عام 1935 واقل من سنة عام 1944 . ان مراجعة بسيطة لنصوص القانون المدني العراق الحالي تبين ان القانون قد احتفظ بالكثير من احكام مجلة الاحكام الشرعية العثمانية وذلك بتأثير من العلامة منير القاضي مدرس مجلة الاحكام العدلية في كلية الحقوق العراقية وصاحب المؤلفات العديدة في هذا المجال حتى ان المستشار طارق البشري يقول كان القانون العراقي أقرب إلى الشريعة الإسلامية من القانون المصري . ان اللجنة التي أكملت مسودة القانون هي اللجنة التي تشكلت عام 1945 أي بعد مغادرة السنهوري باشا العراق عام 1944 . هنا يثور سؤال لماذا اذن تم تضخيم دور السنهوري باشا بحيث اصبح من المسلم به انه هو من كتب القانون المدني العراقي مقابل تقليص دور الفقهاء العراقيين الذين عملوا منذ عام 1933 على هذا المشروع ؟ الجواب ببساطة هو السياسة . فقد لعبت الحكومات العراقية بعد عام 1952 على وتر الخلافات التي حصلت بين نظام جمال عبد الناصر والدكتور السنهوري والتي أدت الى ضرب الدكتور السنهوري وطرده من مجلس الدولة وما تلاها مما عرف باسم مذبحة القضاء المصري فعمدت الحكومات العراقية الملكية الى تضخيم دور السنهوري ، اما بعد عام 1958 وسقوط النظام الملكي عملت الحكومة الجمهورية على التغطية على أي منجز للنظام الملكي ومنها قانون رقم 40 لسنة 1951 ، مع ابراز اسم الدكتور عبد الرازق السنهوري نكاية بالرئيس المصري جمال عبد الناصر. بعد عام 1963 ووصول الاخوان عارف الى السلطة بدات الحقبة المصرية في العراق حيث ان التيار القومي آنذاك عمل على تضخيم أي دور مصري في العراق مقابل تقزيم أي دور عراقي . كما ان الحكومة بعد عام 1968 عملت على إخفاء معلومة مشاركة فقيه يهودي هو الأستاذ داود سمرة وفقيه مسيحي هو الأستاذ أنطوان شماس في كتابة القانون المدني العراقي . وبهذا ترسخت مقولة القانون المدني العراقي كتبه الدكتور عبد الرازق السنهوري . نكرر مرة ثانية ان الغرض ليس التقليل من القيمة العملاقة للعلامة الدكتور عبد الرازق السنهوري ، فهو قيمة وقامة شاهقة ولكن الحقيقة يجب ان تدون وتنشر حتى لايستمر الظلم للفقهاء العراقيين الذين عملوا طيلة 17 سنة على كاتبة ذلك القانون والكثير غيره من الإنجازات القانونية . ---------------------------------- مقـالات ثقافي أضيف بواسـطة : زهير جمعة المالكي تاريخ الإضافـة : 26/10/2020 - 18:14 آخـر تحديـث : التعليقـات : 0 رابط المحتـوى : https://nahrain.com/content.php?id=355437 رقم المحتوى : 355437 ---------------------------------- موسـوعة النهريـن nahrain.com