تصريحات ترامب وامريكا التي لانعرفها ---------------------------------- في وسط صيحات انصاره وهتافاتهم وبلهجة تذكر بمسلسلات رعاة البقر تعمد الرئيس الامريكي دونالد ترامب ان يوجه كلامه بصورة مباشرة الى الملك السعودي ذاكرا اياه بالاسم مطالبا اياه بدفع المزيد من الاموال مقابل الحماية الامريكية ومشيرا بان دون الحماية الامريكية فان الملك سوف لن يستطيع المحافظة على طائراته لمدة اسبوعين . تعتبر تلك اللهجة والاسلوب غريبتين على عالم الدبلوماسية والعلاقات الدولية في القرن الحالي ولكنهما يذكران بنظام الحماية الذي غادره العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومنذ اعلان الرئيس الامريكي وودرو ويلسن لمباديء السلم العالمي الاربع عشر عام 1918 ولكن الرئيس ترامب اعاد بتصريحاته للذاكرة صورة حكام دول الانتداب وطريقة تعاملهم مع الدول المحمية . السوال الذي يثور في هذا المجال هو لماذا هذه التصريحات ؟ ولماذا الان ؟ مابين اعلان مباديء ويلسن عام 1918 التي نصت في اكثر من مره على مباديء العدل والمساواة وحق تقرير المصير بين الشعوب وتصريحات ترامب 2018 التي تعيد مباديء الحماية والامن مقابل المال يكمن الجواب الذي يتجاوز فترة المائة عام في معرفة حقيقة القوى الحاكمة في الولايات المتحدة الامريكية التي لايعرفها الكثيرون والتي ترسم الاستراتيجيات الحاكمة لمستقبل العلاقات الدولية . فبالرغم من التأثير الإمريكي الكبير في صياغة مستقبل العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واثناء الحرب الباردة ومرحلة ثنائية القطب ومرورا بمرحلة تحولها الى قطب وحيد وحتى عودة تعدد الاقطاب ، فإن كيفية صنع القرار وتبني السياسات داخل هذا البلد غير معروفه تمامًا لدى الكثيرين . الصورة الظاهرة والتي تسوق اعلاميا عن الولايات المتحدة الامريكية هي تلك الدولة الساحرة ذات التعدد الفكري، والتنوع العرقي والتي يخضع نظام الحكم فيها لمؤسسات ديمقراطية فى مقدمتها البيت الأبيض والكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، والتي يتم اختيار اعضائها بواسطة الشعب الأمريكى فى مناخ حر . لكن متابعة مجريات الامور تبين ان خلف بريق الدعاية عن النموذج الأمريكى فيما يتعلق بنظم الحكم ان هناك قوى حقيقية تقف وراء الستار، وهي تقوم بتحريك السياسات فى البلد داخليا وخارجيا . في جميع الدراسات والابحاث والمقالات التي تتحدث عن النظام السياسي في الولايات المتحدة الامريكية يتم التحدث عن ثنائية الحزبين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي او كما يسمى صراع الفيل والحمار اشارة الى رمز كل حزب . كلا الحزبين يتناوبان على قيادة البلاد بالرغم من ان الدستور الامريكي يسمح لاحزاب اخرى بالمشاركة في الانتخابات وكذلك يسمح للمستقلين بالمشاركة كذلك ولكن نظام الحزبين اصبح شبه عرف في الحياة السياسية الامريكية . يتنافس الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الانتخابات على رئاسة الولايات المتحدة والانتخابات على مقاعد الكونغرس الامريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب يندر ان يسيطر احد الحزبين على موقع الرئاسة وعلى الكونغرس مثل ماهو الوضع عليه في الادارة الحالية بسيطرة الحزب الجمهوري وكما كان الحال عليه عام 1918 بسيطرة الحزب الديمقراطي . هذا هو الوجه الظاهر للنظام السياسي الامريكي ولكن للصورة وجه اعمق تتحكم فيه قوى تحدد اي الحزبين سيفوز بالانتخابات وتتوزع هذه القوى بين قطبين هما المجمع الصناعي العسكري ومدرسة العولمة الشتراوسية وسنتناول شرح المقصود بكل منهما . المجمع الصناعي العسكري المصطلح المستخدم للإشارة إلى المنظومة التي تدعم القوات المسلحة الأمريكية، وهي المجموعة التي ظهرت بعد نهاية الحرب الاهلية الامريكية التي اندلعت بين عامي 1861 و انتهت رسميا بانتصار الولايات الشمالية عام 1865 , كان سبب ظهورها ان الحكومة الامريكية الاتحادية وجدت نفسها امام مشكلة ان هناك الكثير من مصانع السلاح التي انشئت خلال الحرب لسد احتياجات الجيوش المتحاربه والتي انتفت الحاجة اليها بعد الحرب لذلك ظهرت مجموعة على شكل تحالف غير رسمي يهدف إلى تطوير انتاج السلاح والدفاع عن حق امتلاك السلاح الذي ورد في التعديل الثاني للدستور الامريكي ، وإلى الإبقاء على ألاسواق الخارجية لتجارة السلاح ووضع التصور العسكري الاستراتيجي للشؤون الداخلية. وشمل كامل شبكة العقود وتدفقات الأموال والموارد بين الأفراد والشركات والمؤسسات التابعة لمتعهدي الدفاع والبنتاغون والكونغرس والإدارة التنفيذية . في عام 1942 اصدر الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت قرارا بتأسيس وكالة فيدرالية باسم مجلس الانتاج الحربى ليتولى الإشراف على المشروعات الصناعية الأكبر فى الولايات المتحدة الأمريكية، الا ان نفوذ المجمع الصناعي العسكري كان قد توسع بصورة مخيفة ليتجاوز دور مجلس الانتاج الحربي وكان اول ظهور لمصطلح المجمع الصناعي العسكري قد ظهر في مقال نشرته مجلة الشوون الخارجية عام 1947كتبها ونفيلد رفيلد. كما كتب رايت ميلز عام 1956، مقالا اشار فيه الى وجود فئة من القادة السياسيين والعسكريين وأصحاب الأعمال تحركهم مصالح مشتركة، وهم القادة الحقيقيين للدولة، وهم بعيدون على نحو فعال عن السلطة الديمقراطية. جاء اقوى تحذير لتنامي نفوذ المجمع الصناعي العسكري على لسان الرئيس الامريكي داويت ايزنهاور في خطاب الوداع عام 1961 والذي اكد فيه على ان الامة الامريكية يجب ان تحترس من النفوذ الذي لا مبرر له من المجمع الصناعي العسكري. كانت قمة النفوذ الذي وصل اليه المجمع الصناعي العسكري عندما نجح في ايصال الشاب جون كينيدي الى كرسي الرئاسة عن الحزب الديمقراطي في مواجهة المرشح العنيد نيكسون عن الحزب الجمهوري وكان كينيدي اكثر تماشيا في بداية حكمه مع اهداف المجمع وتوجهاته من حيث زيادة عدد المستشارين العسكريين في فيتنام الجنوبية وتشجيع المعارضة الكوبية لنظام كاسترو وزيادة التوترات مع دول حلف وارسو . ادت الهزيمه في خليج الخنازير ووصول العالم الى حافة الحرب النووية في ازمة الصواريخ الى تغيير في سياسة كينيدي جعلته يميل اكثر الى التهدئه ولكنه اتجاه ادى الى اغتياله في تكساس عام 1963 لياتي محله نائبه ليندون جونسون الذي توصل الى اتفاق مع المجمع ينص على الرئاسة مقابل حرب فيتنام وهو ماكان . شهدت تلك الفترة اقصى توسع لنفوذ المجمع الصناعي العسكري حيث كانت حرب فيتنام هي المستهلك الاكبر والمحقق لطموحات المجمع القائمة على تشجيع الصراعات الاقليمية الصغيرة التي تعتبر المستهلك الاكبر لمنتجات المصانع العسكرية والابتعاد عن الحروب الشاملة التي تودي الى مواجهات مباشرة مع اعداء اقوياء ولكن الخسائر الفادحة لحرب فيتنام رجحت حظوظ المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون والذي وعد بانهاء الحرب الذي انهى الصراع مع الصين الشيوعيه عام 1972 وانهى الحرب الفيتنامية عام 1973 ليحصل على رئاسة ثانية عام 1972 ولكن المجمع الصناعي العسكري استطاع توجيه ضربه قاصمة له باثارة فضيحة ووترغيت ليرغمه على الاستقالة لصالح نائبه جيرالد فورد . بالرغم من ان المجمع الصناعي العسكري كان دائما اقرب الى التوجه نحو دعم الحزب الديمقراطي باعتباره الاقرب الى دعم مصالح المجمع الا ان الاخير دعم وبقوة الرئيس الامريكي رونالد ريغان من الحزب الجمهوري الذي تولى الرئاسة مابين عام 1981 و 1989 بعد ان طرح ريغان استراتيجية حرب النجوم وجمد معاهدة سالت 2 مع الاتحاد السوفيتي السابق وقام بتسليح المقاتلين الافغان وهذا يعني خدمة اكبر لمصالح المجمع العسكري الصناعي بالاضافة الى ماكانت يحققه استمرار الحرب العراقية الايرانية من مبيعات اكبر للسلاح . كذلك ادى التوجه الديمقراطي منذ فترة حكم الرئيس جيمي كارتر نحو الغاء او تقنين حق حيازة وحمل السلاح للمواطن الامريكي الى فتور دعم المجمع الصناعي العسكري للمرشحين الديمقراطيين كون خسارة سوق السلاح الداخلي يعتبر ضربة هائلة للاساس الذي قام عليه المجمع ولهذا السبب استمر دعم المجمع للمرشح الجمهوري جورج بوش الاب عام 1989 لتولي الرئاسة بعد ان وعد باستمرار الدعم لحرب افغانستان بالرغم من انسحاب الاتحاد السوفيتي عام 1989 . بعد هذا الاستعراض التاريخي لظهور وتطور المجمع الصناعي العسكري في الحياة السياسية الامريكية يمكن ان نلخص الاسس التي تقوم عليها استراتيجيات المجمع في ثلاث اسس يطلق عليها اسم المثلث الحديدي وهي اولا المحافظة على سوق السلاح الداخلي والدفاع عن التعديل الستوري الثاني الذي يحمي ذلك السوق . ثانيا الابتعاد قدر المستطاع عن التدخل العسكري المباشر في الحروب الخارجية لتجنب اي خسائر مباشرة في الارواح وعدم تكرار هزيمة فيتنام . ثالثا ضرورة خلق مناطق صراعات وتشجيع الصراعات الاقليمية لضمان استمرار المبيعات من السلاح . تلك الاسس هي التي جعلت المجمع الصناعي العسكري يدعم ادارة بيل كلينتون الديمقراطية التي لم تفتح ملف التعديل الثاني للدستور واثارت مخاوف دول الخليج من استمرار نظام البعث في العراق لتشجيعها على زيادة مشترياتها من السلاح وكذلك دعم المجمع ادارة باراك اوباما التي انسحبت من العراق وافغانستان مع تشجيع استمرار الصراعات في تلك المناطق . لكن المجمع الصناعي العسكري عاقب بشدة المرشحة هيلاري كلينتون في انتخابات عام 2018 لانها تحدثت حول تقنين حق حيازة وحمل السلاح في امريكا وهو الامر الذي ادى الى وصول ترامب الى الحكم . القوة الثانية المتحكمة بالقرار الامريكي هي مدرسة العولمة الشتراوسية التي تنسب الى تلاميذ الفيلسوف ليو شتراوس، الالماني المولد 1899 1973. تهدف سياسة هذه المدرسة الى تحويل الولايات المتحدة الى دولة اقرب الى الامبراطورية الرومانية خارج حدودها كما تكون في الوقت ذاته دولة بوليسية داخل حدودها. كانت ابرز نجاحات تلك المدرسة هي تحويل الدولار الى عملة عالمية مهيمنه بدون ان يكون لها تغطية من الذهب عندما اوقفت الادارة الامريكية في عهد ريتشارد نيكسون تحويل الدولار واحتياطات الدول الاخرى الى ذهب والذي تم عام 1971 وكذلك تحويل الهيمنة الاقتصادية من الذهب الى البترول والتي تم هندستها عن طريق ثعلب السياسة الامريكية هنري كيسنجر . وتنقسم هذه المدرسة الى مدرستين هما مدرسة المحافظين الجدد، ومدرسة الواقعية السياسية. تتفق المدرستان في اعتبار افكار ليو شتراوس هي محور التخطيط الاستراتيجي لتحقيق المشروع الأميركي لعالم أحادي القطب، الذي يركز على حق القويّ التسلّط على الضعفاء؛ لكنه يرفض إساءة استخدام السلطة، إذ ينبغي على الحاكم أن يقدم للشعب ما يتناسب مع قابلياته وحاجاته الا ان مدرسة المحافظين الجدد والتي تعتبر عائلة بوش ابرز اقطابها تركز على التفكير في بناء القرن الحادي والعشرين على أساس السيادة الأميركية على العالم، ومنع القوى الأخرى من السير في طريق النمو و التطوّر الذي سيؤدي ولو بعد حين الى منافسة نفوذ أميركا ومصالحها بشكل جدّي وحاسم. أما المدرسة الواقعية السياسية التي يعتبر كيسنجر وزبيغنو بريجنسكي ابرز اقطابها فهي تركز على عدم المغامرة مع التركيز على تحقيق الأهداف بغض النظر عن الوسائل من خلال دفع القوى الكبرى للتدخل لمساعدة أميركا أحياناً انطلاقا من فكرة عدم إمكانية أميركا الاستمرار بالأحادية في إدارة الملفات العالمية وان على الولايات المتحدة الامريكية ان تتحول من قوة مهيمنه على العالم وهو الهدف الذي يسعى له المحافظين الجدد الى قوة قائدة للعالم بحسب رؤية المدرسة الواقعية السياسية . نجحت مدرسة المحافظين الجدد في ايصال جورج بوش الابن الى سدة الرئاسة وكانت استراتيجية الامن القومي في عهده تقوم على مبدأ منع اعادة ظهور منافس جديد بعد ان زال الخطر الذي كان يمثله الاتحاد السوفيتي سابقا لذلك يجب التركيز على منع انبثاق أي منافس كوني مستقبلي كامن من خلال اثبات القوة العسكرية الأمريكية . الا ان الخسائر التي لحقت بالجيش الامريكي في العراق وافغانستان اثارت موجه من ردود الافعال القوية داخل الولايات المتحدة الامريكية وجعلت العديد من الاسماء الكبيرة داخل مجموعة المحافظين الجدد اسماء غير محبوبه لذلك فشلت تلك المجموعة في ايصال الابن الثاني لجورج بوش جب بوش الى سدة لرئاسة ليفسح المجال امام مرشح المدرسة الواقعية السياسية دونالد ترامب ليتولى الرئاسة مستفيدا من دعم مدرسة العولمة الشتراوسية وعدم رغبة المجمع العسكري الصناعي في دعم منافسته هيلاري كلينتون . بعد هذا الاستعراض نرجع للاجابة عن التساولات حول تصريحات ترامب . كما ذكرنا سابقا دونالد ترامب هو صنيعة المدرسة الواقعية ضمن مدرسة العولمة الشتراوسية والتي تركز على جعل الولايات المتحدة الامريكية قائدة للعالم ولاتهتم بالهيمنة الكاملة لذلك فالسياسة الامريكية الحالية تعتمد على استخدام موارد الدول اخرى في تحقيق القيادة المنشودة والابتعاد عن المواجهات المباشرة طويلة الامد التي قد تودي الى خسائر بشرية . ضمن هذا الاطار يمكن فهم الوعود والاجراءات التي اتخذتها الادارة الامريكية منذ وصول ترامب الى البيت الابيض ابتداء من الانسحاب من العديد من الاتفاقيات الدولية التجارية وبضمنها النافتا والضغوط على دول الناتو لزيادة مساهمتها في ميزانيات الدفاع وفرض الرسوم على الصين والتفاهمات مع روسيا وحتى سياسات الهجرة داخل الولايات المتحدة فجميعها توكد على التوجه الجديد للادارة الامريكية وهو القيادة وليس الهيمنة . لكن مع اقتراب الانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الامريكي والتي ستكون في شهر تشرين الثاني من عام 2018 وعدم رضا المجمع الصناعي العسكري عن اداء الرئيس الامريكي وهبوط شعبيته الى مستوى متدني لذلك كان على ترامب ان يتجه الى المصدر السريع للاموال التي يمكن ان يتم ضخها الى المجمع للحصول على تاييده حتى وان كان ذلك على حساب احراج الحلفاء كما ان تلك التصريحات ترضي مدرسة العولمة التي تبين ان الولايات المتحدة هي التي تقود العالم وتمنح حمايتها لمن يدفع مقابل تلك الحماية . ---------------------------------- مقـالات سياسي أضيف بواسـطة : زهير جمعة المالكي تاريخ الإضافـة : 13/10/2018 - 19:25 آخـر تحديـث : التعليقـات : 0 رابط المحتـوى : https://nahrain.com/content.php?id=211352 رقم المحتوى : 211352 ---------------------------------- موسـوعة النهريـن nahrain.com